هل يمكن أن نتعلم الأدب أو الكتابة الإبداعية ؟ إن سؤال من هذا النوع داخل ثقافتنا من شأنه أن يخلخل المسلمة التي اعتادت أن يكون الأدب ملكة خاصة يولد الإنسان بصحبتها كامتياز (جيني) ومن ثم ترافقه في جميع مراحل حياته دونا عن الآخرين.
بالطبع ظهور الموهبة وفاعليتها وتحولها من الحالة الكربونية الخام المتوارية بين صخور المنجم إلى الحالة الألماسية الساطعة المبهرة يحدده مدى وعي الموهوب نفسه أو المبدع بها ، ومدى حرصه على أن يكون له مشروع إبداعي يكرس له جميع تفاصيل حياته ووقته وشغفه ويقظته ومنامه .
لكن يبقى السؤال هل يمكن تعلم الكتابة الإبداعية ؟
وقلق البدايات كثيرا مايدفع البعض أن يأخذ بطاقة عبوره النهر ممن سبقوه أو ممن يثق بأقلامهم ، أو على الأقل من الذين يستطيعون أن يفسروا له غموض وضبابية البحر اللجي وتلك اللواعج والصبوات الغامضة بداخلهم والتي تسوقهم باتجاه عالم الكتابة .
وهذا ماحدث أثناء الرسائل التي تبادلها الشاعر الفرنسي (ريلكه ) مع ضابط شاب كان يطمح أن يصبح شاعرا ، الرسائل مجموعة في كتيب صغير ترجمه(أحمد المديني) بلغة جذابة ،ولجمال المحتوى وعمق الأفكار اقتطع لكم أجزاء منه.
يرد ريلكه على انزعاج الشاعر الشاب من رفض عدد من المجلات النشر له فيقول (إن نظرتك متجهة نحو الخارج ، وهذا أمر عليك أن تتجنبه من الآن ، فلا أحد يستطيع أن يمنحك العون أو النصح ، لا أحد، لا يوجد سوى طريق واحد التمسه بنفسك ، ابحث عن الحاجة التي تجعلك تكتب ، اختبر ان كانت جذورها تتغلغل إلى أعماق قلبك) .
ويؤكد على أهمية دعم ثقافته الشخصية (عش قليلا من الوقت مع الكتب ، والتي ستحتويك بدهشة إدراك العالم ، وغناه وعظمته اللامحدودة ، أحبها بعمق لأن هذا الحب سيعود إليك ألف مرة ، وسيعبر نسيج كينونتك كخيط جوهري يختلط بتجاربك الشخصية ).
وأكد (ريلكه)على أهمية الوحدة كونها النبع الصافي للإبداع ( أحب وحدتك وتحمل وزرها،ولتكن الشكوى التي تلحقك منها بردا وسلاما عليك ، تقول إن الأقربين إليك بعيدون عنك،واعلم أن الوحدة فضاء يتكون حولك ، فضاء فسيح يقارب النجوم ، فاستمتع بمشيئتك وإلى الأمام فلا أحد قادر على أن يتبعك، وكن طيبا مع من هم وراءك ، واثقا من نفسك وهادئا أمامهم ، لا تدوخهم بشكوكك، لا ترعبهم بمعتقداتك، أو بحماسك ، إنهم لن يستطيعوا فهمك ، حاول التواصل معهم في ما هو بسيط وصادق .)
يكتب له أيضا في ما يتعلق بالمادة التي يستقي منها الشعر (طبق أفكارك على العالم الذي تحمله بداخلك ، وسم هذه الأفكار كما تشاء )
وفي النهاية يذكر له في مقطوعة غاية في الجمال أنجع السبل للتغلب على مخاوفه (كل الأشياء المرعبة مجرد أشياء بلا آمان وتنتظر منا أن ننجدها ، فليس علينا أن نرتعب حين يصعد منك حزن لم يسبق أن عشته من قبل، وإذا مر بك قلق ما مثل ظل أو شعاع برق ، فحري بك أن تفكر بأن أمرا ما يتكون فيك ، وإن الحياة لم تغفل عنك، وبأنها تحملك في يدها ولن تتخلى عنك، ثم لماذا تريد أن تستثني من حياتك الآلام والقلق والاكفهرار، فهذا هو سبيلك الوحيد لتتطور).
المفارقة أنه بعد مراسلات طويلة بين (ريلكه) والشاعر الشاب لم يصبح شاعراً بل بقي في مهنته العسكرية وارتاح لذلك .